اختبار الميول المهنية

خمسون تخصص كيف اختار - تجارب خريجين

 قصة واقعية ، تشاركنا بها الأخت فاطمة العوضي (FIAlawadhi@)

خلال مراحل دراستي ما قبل الجامعية لم أمّر بأي نوع من الإرشاد في ناحية إختيار التخصص الجامعي و الحياة ما بعد المدرسة، اللهم من محاضرة يتيمة حضرتها في جمعية الإصلاح تابعة لنادي الجامعيين ( لا أعلم إن كانت التسمية صحيحة). لكن كل ما أذكره هو ما قالته لي والدتي عن أنه من الأفضل أن أتجه للفرع العلمي في دراستي الثانوية لأنه سيتيح لي دخول أي تخصص أرغب به في الجامعة دون حتى أن تشرح لي ما هي الفروع الأخرى وكيف أختار ماهو مناسب لميولي (الأدبية تماماً).
 كان أن دخلت لذلك الفرع وتدنّى معدلي بشكل كبير و ذلك لإصطدامي بمواد الفيزياء والرياضيات التي لم أكن أفهم منها شيئاً و كنت بالكاد أنجح فيها. لكن وفقني الله في تلك الفترة بصديقات متفوقات كان أن ساعدنني على تخطي هذه المرحلة الصعبة والتخرج من الثانوية بمعدل (يفي بالغرض 88.8% ويدخلني لجامعة البحرين).
 وكانت المعضلة الجديدة .. 
أي تخصص جامعي سأختار ؟ لا زلت أتذكر الورقة ذات الخمسون تخصص التي زودتنا بها جامعة البحرين في آخر فصل دراسي من الصف الثالث الثانوي لتعطينا فكرة عما توفره الجامعة من تخصصات. وكان علينا أن نرقمها تنازلياً حسب رغبتنا الأولى ثم الثانية و …. حتى يتم قبولنا حسب رغباتنا، معدلنا، و الكراسي المفتوحة في التخصص المطلوب. قضيت أيام في مناقشة صديقتي المقربة عما سنختاره معاً (على الرغم من إختلاف الميول والمعدل –ممتاز 94%-  والشخصيات وحتى البيئة العائلية) فقط لأننا أردنا أن نكون معاً في الجامعة كما كنا في المدرسة . كما إستشرت بعضاً ممن أثق في رأيهم ( ومنهم أختي الكبيرة التي كانت تدرس تخصص علوم حاسوب بتفوق في وقتها). في النهاية إتفقت أنا وصديقتي على إختيار التصميم الداخلي (هندسة الديكور) كتخصص أول ومن ثم ترقيم بقية التخصصات عشوائياً لثقتنا أننا سنقبل في التصميم الداخلي (لا أعرف الآن كيف وثقنا بأنفسنا لهذه الدرجة في وقتها) على الرغم من أني لا أحب الرسم ولا أتقنه بل أحتاج مسطرة لأرسم خطاً مستقيماً !!!
 بعد فترة من الإنتظار، تم قبولنا في الجامعة و تحديد مواعيد إمتحان الإعفاء من الفصل التمهيدي (يقدمه فقط من يحصل على درجات ممتازة عالية في اللغة الإنجليزية طوال المرحلة الثانوية) وفرحنا أنا وصديقتي جداً لتحقق حلمنا بقبولنا في نفس التخصص !! و إنتظرنا الإمتحان بفارغ الصبر.
 في تلك الأثناء كانت والدتي تعرض علينا أنا وبنات خالتي المتخرجات في وقتها بعض التخصصات الأخرى التي يتم تقديمها كبعثات من جهات مختلفة و منها أختصاص صحة الفم و الأسنان في كلية العلوم الصحية في البحرين (والتي رفضتها بشدة لكوني لا أتخيل نفسي أعمل في فم أيّ كان) وتخصص هندسة المعدات الطبية في جامعة عجمان في دولة الإمارات. لفت نظري التخصص الثاني، على الرغم من أني لا أعرف عنه شيئاً، لا لشيء و لكن لأنه سيتطلب أن أسافر للدارسة في الخارج و أعيش حرة طليقة (كما توهمت) كما سيتسنى لي الإبتعاد عن بعض المشاكل العائلية التي كنا نمر بها في تلك الفترة. فإخترت التقديم للدراسة في هذا التخصص و تم قبولي بعد شرح مبسط شديد لي عنه و كيف أني سأكون ثاني إمرأة تحصل على هذا التخصص النادر في البحرين دون أن أعلم ما هي الوظيفة التي قد أشغلها عندما أنهي دراستي الجامعية.  تم إرسال أوراقي لجامعة عجمان والقيام ببعض الترتيبات المبدأية كالبصمات و الفحص الطبي الخاص بالمبتعثين و ما شابه في إنتظار قبولي. وأثناء إنتظاري قدمت إمتحان الإعفاء في جامعة البحرين و نجحت فيه و قمت بإتمام تسجيلي في الجامعة كي لا أخسر مقعدي في حال لم يتم قبولي في عجمان.
 إنشغلت في الإجازة الصيفية إلى أن جائني خبر قبولي في جامعة عجمان فإستقبلته بفرح كبير لأني  سأكون (كبيرة) و سأعتمد على نفسي و أحيا كما أشاء بعيداً عن المشاكل (كما ظننت) وقدمت أوراق إنسحابي من جامعة البحرين كي أستطيع العودة لها (و كأنني أتوقع المستقبل) عندما أحتاج لذلك.
 وصلت لدولة الإمارات العربية المتحدة لأول مرة في حياتي مع والدي الذي أخذني للسكن (السجن) الجامعي دون أن نسأل حتى عن قوانينه المخيفة. وفي ثاني يوم ذهبت للجامعة و إلتقيت بمرشدي الجامعي الذي عرض علينا الخطة الدراسية والمواد المطلوب علينا إنهائها للحصول على شهادة الباكلريوس كما شرح لنا كيف أن هذا التخصص يجمع بين العلوم الطبية (حيث يتحتم علينا دراسة مادة التشريح و الأحياء) وبين الهندسة الميكانيكية و الهندسة الإلكترونية وبأن شهادتنا ستكون مصدقة من إحدى الجامعات المرموقة في إسبانيا و قد يطلب منا السفر لهولندا أو إحدى الدول الأوروبية الأخرى لإنهاء آخر فصل تدريبي هناك حيث تتوافر مصانع الأجهزة الطبية.
 كانت تلك المعلومات مثيرة جداً لي بحيث شتت إنتباهي عما هو مهم أمامي، أغلب المواد التي يتحتم علي دراستها هي الفيزياء و الرياضيات أو ما يتعلق بها بدرجة كبيرة. ومن ثم يأتي كابوس مادة التشريح الذي قلت في عقلي أنني سأأجل دراستها حتى آخر سنة لذا لا علي القلق منها الآن.
كيف كانت أول سنة لفاطمة؟ و هل تكيفت مع تخصصها الذي اختاره لها والديها؟
بدأت الدراسة و توالت المطبات الدراسية في السقوط على رأسي حيث كنت بالكاد أنجح في إمتحاناتي. حياتي الإجتماعية مرت بمشاكلها هي الأخرى. فالتعرف على صداقات جديدة في عالم مختلف تماماً بعد أن عشت في بيئة محمية بين أهلي كان أمراً عسيراُ .. إختلاف العادات و التقاليد وحتى المسموح و الممنوع وبيئة المجتمع ومحيط الجامعة سبب لي صدمة إجتماعية ثقافية كبيرة عانيت كثيراً حتى تخلصت من آتارها. مرت السنة الأولى بصعوبة تفاديت فيها بالكاد مشاكل كبيرة كانت قد تنهي مستقبلي الدراسي . وعانيت فيها ما عانيت من تعنت مشرفات السكن و قوانينهم الغريبة حيث كان يمنع علينا تسلم أي طلب من الخارج إلى عن طريق عامل الحراسة الذي يفتش الطلب و من ثم منع الخروج و الدخول من و إلى السكن إلى عن طريق باصات الجامعة (وفي الجامعة يمنع خروجنا إلا لباص السكن) ومن ثم حين أحتاج شيئاً علي الإنتظار حتى الرحلة الإسبوعية لمدة ساعتين لأحد مراكز التسوق لقضاء إحتياجاتنا تحت مراقبة المشرفات وحتى عندما ممرت بوعكة صحية تم رفض نقلي للمستشفى قبل أن يتدخل والدي بإتصال لمديرة السكن. سبب كل ذلك لي ضغطاً كبيراُ ومصاعب نفسية أثرت على مستواي الدراسي المتعثر أصلاً.
 في الإجازة الصيفية عدت للمنزل أخيراً مصممة على إنهاء مغامرتي الدراسية لكني رضخت للضغوط العائلية وغيرت رأيي (مؤقتأ) و إلتحقت بدورة تدريبية مع الجهة التي إبتعثتني للدراسة لرؤية جو العمل و طبيعة الوظيفة التي سأشغلها حال تخرجي. أثناء دراستنا شرح لنا المرشد الجامعي أننا ندرس لنكون مخترعين أو مصممين للأجهزة والمعدات الطبية و حتى الأطراف الصناعية و كنت أتسائل بيني وبين نفسي أين سأمارس هذه الوظيفة في البحرين؟؟!! وهنا جائت الطامة الكبرى، كل عملي سيكون في إصلاح الأجهزة و المعدات الطبية الموجودة أصلاً في مستشفيات و عيادات البحرين حيث في اليوم الأول ذهبنا لأحد المستشفيات الحكومية الكبيرة لنصلح خللاً في احد أجهزة الأشعة الحديثة، تفاجأت بأن المشكلة كانت في أن أحد مسامير الجهاز غير مثبت كما يجب لذا فأن الذراع لا تتحرك، ثبت المهندس الذي أرافقه المسمار وعدنا لمقر العمل لننهي تقرير عملية الصيانة الذي قمنا بها. في اليوم التالي إتجهنا لإحدى العيادات في شركة كبيرة حيث عجزت الممرضة عن تشغيل جهاز ما وإتصلت بنا، كان الخلل أن وضعت لفة الورق الخاصة بطباعة التقارير في هذا الجهاز عكس ما يجب، أعاد المهندس الذي أرافقه تركيب لفة الورق و من ثم عدنا لمقر العمل مرة أخرى لنكتب تقريراً آخر عن عملية صيانة (أقل ما يمكننا قوله عنها أنها سخيفة) أخرى.
 تلك الدورة التدريبية فتحت عيناي على ما كنت أجهله حيث سأقضي 4 سنوات أخرى في الغربة و في ظروف أقل ما يمكنني قوله عنها أنها صعبة لأعود بشهادة هندسة نادرة في البحرين و أعمل فنية تصليح لأعمال صيانة غبية!!
 ولكن كما أسلفت أرغمتني الضغوط العائلية للعودة للإمارات لإكمال دراستي وعدم تضييع هذه الفرصة الذهبية من نيل شهادة نادرة من الخارج (دون أي إعتبار لما ممرت به أو حتى الوظيفة التي سأشغلها مستقبلاً والتي لا تناسبني و لا تلبي طموحي أو ميولي). وكان أن عدت للدراسة حيث أنجح هنا وأرسب هناك و أعيد هذه المادة و انجح في تلك بالكاد حتى أنهيت سنتين و نصف السنة من الدراسة و قررت معارضة ضغوط أهلي والعودة للبحرين نهائياً.
 كان أول شهران بعد العودة للبحرين متعبين كثيراً حيث كان علي شرح أسبابي لأهلي ومعارفنا والصديقات وكل من كان ينتظر عودتي بشهادة الباكلريوس ولأن أسبابي كانت غير مقنعة في نظرهم وخصوصاُ  انني كنت الأولى في كل عائلتنا ممن تتخلى عن دراستها الجامعية.
 بما أنني قدمت أوراق إنسحابي من جامعة البحرين حاولت العودة لها مرة أخرى لدراسة أي تخصص آخر فقط لأكف كلام الناس عني لكن بما ان كان قد مرت 3 سنوات منذ أن أنهيت دراستي الثانوية فكان علي أن أخضع لإمتحان تعجيزي في الرياضيات و الإنجليزي و العربي لم ينجح فيه خلال 5 سنوات إلا 3 طلاب !! بالتأكيد لم أنجح به و تم رفض طلبي. ثم قضيت سنة كاملة دون أي دراسة حتى قررت الدراسة في معهد البحرين للتدريب في أي تخصص متوافر فقط كي لا أبقى في المنزل و أتفادى كلام الجميع عن الفرصة الذهبية التي ضيعتها من يدي.
 الآن أحمل شهادة دبلوم أول في الإدارة المكتبية من معهد البحرين للتدريب و أعمل في وظيفة جيدة جداً (بالمقارنة مع شهادتي المتواضعة) حالياً أعرف ما أحب فبإمكاني النجاح في تخصصات بعيدة عن الرياضيات و لها تواصل مباشر مع الناس، أتقن الإنجليزية بشكل جيد جداً و أبدع في الكتابة بالعربية (بشهادة غيري). وها أنا أحلم يوماً ما بأن أستطيع إكمال دراستي الجامعية في تخصص يناسب ميولي و يتناسب مع سوق العمل في البحرين في نفس الوقت.
 كما نصحت سابقاً كل من سألني عن الدراسة الجامعية، أود أن أقدم لكم نصيحتي المتواضعة من تجربتي (الفاشلة) التي مررت بها في هذا الموضوع. أولاً، إختيار التخصص الجامعي يبدأ من المرحلة الثانوية أي قبل التخرج بسنوات. ثانياً، يسمح لنا النظام الدراسي في البحرين حالياً التخصص في السنة الثانية من المرحلة الثانوية بعد أن يدرس الطالب مختلف المواد ويختار منها ما يناسبه حسب ميوله في حينها. ثالثاً، التخصص الجامعي أو الشهادة الجامعية ليست هي الهدف الذي نسعى له طوال سنوات الدراسة الجامعية و إنما هي الجسر الذي سيحملنا نحو الوظيفة التي ستحدد مستوى و طريقة حياتنا في النهاية. نسنتج مما سبق أن ما علينا إختياره فعلاً هو ما هي وظيفة أحلامنا وكيف نريد أن نعيش حياتنا مستقبلاً؟ مثلاً من يرغب أن يصبح طياراً عليه أن يتأكد من قدرته على دراسة المواد المطلوبة لهذه الوظيفة ثم عليه أن يتأكد من أن حياته الإجتماعية و الزوجية لن تكون سهلة بسبب ترحاله الدائم و عدم إستقراره. من يريد أن يكون محامياً عليه أن يكون قادراً على الحفظ ثم الحفظ ثم الحفظ و أن يكون فصيحاً و طليق اللسان ويملك القدرة على التعبير عن نفسه وحل المشكلات بسهولة. من ثم عليه أن يكون قادراُ على التعامل مع مختلف الناس والشخصيات ممن سيدافع عنهم او ضدهم . مهنة الطب المهنة الراقية تتطلب 7 سنوات على أقل تقدير من الدراسة والتدريب للحصول على شهادة الباكلريوس ثم الدراسة المتواصلة للتطور في التخصص ومتابعة العلم الحديث. كما على من يمتهن هذه المهنة أن يكون قادراً على تحمل الضغط الكبير للعمل والدراسة المتواصلين مع محاولة موازنة ما سبق مع الحياة الإجتماعية.
 و هكذا .. يكون تقييم وإختيار التخصص الجامعي بما سيفتحه لنا من آفاق وظيفية مختلفة بما يتناسب مع ميولنا و قدراتنا الدراسية لأن ال 4 أو 5 سنوات الدراسية هذه هي ما يحدد حياتنا المستقبلية وحتى المستوى المعيشي الذي سيمكننا الحصول عليه.
  وفي الختام أتمنى أن تكون تجربتي الفاشلة درساً لكم لكي تنجحوا في حياتكم الجامعية و تحققوا أهدافاكم الحياتية وتذكروا
  ليست الشهادة الجامعية هي الهدف .. بل هي الجسر الذي نبنيه ليحملنا لأهداف أكبر. 
نشكر الاخت فاطمة على مشاركتها لنا بهذه القصة الواقعية ، لما مرت به من مراحل حتى تمكنت من مواجهة واقعها الذي فرض عليها. تذكر فاطمة أن تجربتها فاشفة، و نحن نقول أنها ناجحة بكل المقاييس! فذلك الكم من الخبرات التي استفادت منها سواء على المستوى الاجتماعي و التعليمي و الثقافي لا يشترى. بل هي تجارب مرت بها و زادت في شخصيتها، حتى و ان لم تكن تلك التجارب ايجابية بشكل تام. و الأهم من ذلك كله انها قررت بنفسها متى تنهي دراستها و متى تعود لمقاعد الجامعة التي تختارها و التخصص الذي تختاره.

تعليقات